الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* الشرح: قوله (باب إذا قال: من ذا؟ فقال: أنا) سقط لفظ " باب " من رواية أبي ذر، وكأنه لم يجزم بالحكم لأن الخبر ليس صريحا في الكراهة. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي فَدَقَقْتُ الْبَابَ فَقَالَ مَنْ ذَا فَقُلْتُ أَنَا فَقَالَ أَنَا أَنَا كَأَنَّهُ كَرِهَهَا الشرح: قوله (عن محمد بن المنكدر) في رواية الإسماعيلي " عن أحمد بن محمد بن منصور وغيره عن علي بن الجعد شيخ البخاري فيه عن شعبة أخبرني محمد بن المنكدر عن جابر". قوله (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي) تقدم بيانه في كتاب البيوع من وجه آخر مطولا. قوله (فدققت) بقافين للأكثر، وللمستملي والسرخسي " فدفعت " بفاء وعين مهملة. وفي رواية الإسماعيلي " فضربت الباب " وهي تؤيد رواية فدققت بالقافين، وله من وجه آخر وهي عند مسلم " استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم " ولمسلم في أخرى " دعوت النبي صلى الله عليه وسلم". قوله (فقلت: أنا. فقال: أنا أنا. كأنه كرهها) وفي رواية لمسلم " فخرج وهو يقول أنا أنا " وفي أخرى " كأنه كره ذلك " ولأبي داود الطيالسي في مسنده عن شعبة " كره ذلك " بالجزم. قال المهلب: إنما كره قول أنا لأنه ليس فيه بيان إلا أن كان المستأذن ممن يعرف المستأذن عليه صوته ولا يلتبس بغيره، والغالب الالتباس. وقيل إنما كره ذلك لأن جابرا لم يستأذن بلفظ السلام، وفيه نظر لأنه ليس في سياق حديث جابر أنه طلب الدخول، وإنما جاء في حاجته فدق الباب ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم بمجيئه، فلذلك خرج له. وقال الداودي إنما كرهه لأنه أجابه بغير ما سأله عنه، لأنه لما ضرب الباب عرف أن ثم ضاربا، فلما قال أنا كأنه أعلمه أن ثم ضاربا فلم يزده على ما عرف من ضرب الباب، قال: وكان هذا قبل نزول آية الاستئذان. قلت: وفيه نظر لأنه لا تنافي بين القصة وبين ما دلت عليه الآية، ولعله رأى أن الاستئذان ينوب عن ضرب الباب وفيه نظر لأن الداخل قد يكون لا يسمع الصوت بمجرده فيحتاج إلى ضرب الباب ليبلغه صوت الدق فيقرب أو يخرج فيستأذن عليه حينئذ، وكلامه الأول سبقه إليه الخطابي فقال: قوله " أنا " لا يتضمن الجواب ولا يفيد العلم بما استعمله وكان حق الجواب أن يقول أنا جابر ليقع تعريف الاسم الذي وقعت المسألة عنه. وقد أخرج المصنف في " الأدب المفرد " وصححه الحاكم من حديث بريدة " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المسجد وأبو موسى يقرأ. قال فجئت فقال: من هذا؟ قلت: أنا بريدة " وتقدم حديث أم هانئ " جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت أنا أم هانئ " الحديث في صلاة الضحى، قال النووي: إذا لم يقع التعريف إلا بأن يكني المرء نفسه لم يكره ذلك، وكذا لا بأس أن يقول: أنا الشيخ فلان أو القارئ فلان أو القاضي فلان إذا لم يحصل التمييز إلا بذلك. وذكر ابن الجوزي أن السبب في كراهة قول " أنا " أن فيها نوعا من الكبر، كأن قائلها يقول أنا الذي لا أحتاج أذكر اسمي ولا نسبي. وتعقبه مغلطاي بأن هذا لا يتأتى في حق جابر في مثل هذا المقام. وأجيب بأنه ولو كان كذلك فلا يمنع من تعليمه ذلك لئلا يستمر عليه ويعتاده والله أعلم. قال ابن العربي: في حديث جابر مشروعية دق الباب، ولم يقع في الحديث بيان هل كان بآلة أو بغير آلة. قلت: وقد أخرج البخاري في " الأدب المفرد " من حديث أنس " أن أبواب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تقرع بالأظافير " وأخرجه الحاكم في " علوم الحديث " من حديث المغيرة بن شعبة، وهذا محمول منهم على المبالغة في الأدب، وهو حسن لمن قرب محله من بابه، أما من بعد عن الباب بحيث لا يبلغه صوت القرع بالظفر فيستحب أن يقرع بما فوق ذلك بحسبه. وذكر السهيلي أن السبب في قرعهم بابه بالأظافير أن بابه لم يكن فيه حلق فلأجل ذلك فعلوه، والذي يظهر أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك توقيرا وإجلالا وأدبا. *3* وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ الْمَلَائِكَةُ عَلَى آدَمَ السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ الشرح: قوله (باب من رد فقال: عليك السلام) يحتمل أن يكون أشار إلى من قال: لا يقدم على لفظ السلام شيء، بل يقول في الابتداء والرد: السلام عليك، أو من قال لا يقتصر على الإفراد بل يأتي بصيغة الجمع، أو من قال لا يحذف الواو بل يجيب بواو العطف فيقول " وعليك السلام"، أو من قال يكفي في الجواب أن يقتصر على " عليك " بغير لفظ السلام، أو من قال لا يقتصر على " عليك السلام " بل يزيد " ورحمة الله". وهذه خمسة مواضع جاءت فيها آثار تدل عليها، فأما الأول فيؤخذ من الحديث الماضي " أن السلام اسم الله " فينبغي أن لا يقدم على اسم الله شيء، نبه عليه ابن دقيق العيد، ونقل عن بعض الشافعية أن المبتدئ لو قال " عليك السلام " لم يجزئ. وذكر النووي عن المتولي أن من قال في الابتداء " وعليكم السلام " لا يكون سلاما ولا يستحق جوابا، وتعقبه بالرد فإنه يشرع بتقديم لفظ عليكم، قال النووي فلو أسقط الواو فقال عليكم السلام قال الواحدي فهو سلام، ويستحق الجواب، وإن كان قلب اللفظ المعتاد. هكذا جعل النووي الخلاف في إسقاط الواو وإثباتها، والمتبادر أن الخلاف في تقديم عليكم على السلام كما يشعر به كلام الواحدي. قال النووي: ويحتمل وجهين كالوجهين في التحلل بلفظ عليكم السلام، والأصح الحصول. ثم ذكر حديث أبي جري وقد تقدم الكلام عليه في الباب الأول، وأما الثاني فأخرج البخاري في " الأدب المفرد " من طريق معاوية بن قرة قال: قال لي أبي قرة بن إياس المزني الصحابي: إذا مر بك الرجل فقال السلام عليكم، فلا تقل وعليك السلام فتخصه وحده، فإنه ليس وحده. وسنده صحيح. ومن فروع هذه المسألة لو وقع الابتداء بصيغة الجمع فإنه لا يكفي الرد بصيغة الإفراد، لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم فلا يكون امتثل الرد بالمثل فضلا عن الأحسن، نبه عليه ابن دقيق العيد. وأما الثالث فقال النووي: اتفق أصحابنا أن المجيب لو قال " عليك " بغير واو لم يجزئ، وإن قال بالواو فوجهان. وأما الرابع فأخرج البخاري في " الأدب المفرد " بسند صحيح عن ابن عباس أنه كان إذا سلم عليه يقول " وعليك ورحمة الله " وقد ورد مثل ذلك في أحاديث مرفوعة سأذكرها في " باب كيف الرد على أهل الذمة". وأما الخامس فتقدم الكلام عليه في الباب الأول. قوله (وقالت عائشة: وعليه السلام ووحمة الله وبركاته) هذا طرف من حديث تقدم ذكره قريبا في " باب تسليم الرجال والنساء " وفيه بيان من زاد فيه " وبركاته". قوله (وقال النبي صلى الله عليه وسلم: رد الملائكة على آدم السلام عليك ورحمة الله) هذا طرف من الحديث الآخر الذي تقدم في أول كتاب الاستئذان، وجزم المصنف بهذا اللفظ مما يقوي رواية الأكثر بخلاف رواية الكشميهني. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْكَ السَّلَامُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ فَرَجَعَ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ فَقَالَ وَعَلَيْكَ السَّلَامُ فَارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ فَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الَّتِي بَعْدَهَا عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ فِي الْأَخِيرِ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي سَعِيدٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا الشرح: قوله (عبيد الله) هو ابن عمر بن حفص العمري. قوله (عن أبي هريرة) قد قال فيه بعض الرواة " عن أبيه عن أبي هريرة " وهي رواية يحيى القطان المذكورة في آخر الباب، وبينت في كتاب الصلاة أي الروايتين أرجح. قوله (أن رجلا دخل المسجد) الحديث في قصة المسيء صلاته، والغرض منه قوله فيه " ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: وعليك السلام، ارجع " وتقدم في الصلاة بلفظ " فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم " وفي رواية أخرى " فقال وعليك " وسقط ذلك أصلا من الرواية الآتية في الأيمان والنذور، وقد تقدم ما فيه مع بقية شرحه مستوفى في " باب أمر الذي لا يتم ركوعه بالإعادة " من كتاب الصلاة. قوله (وقال أبو أسامة في الأخير: حتى تستوي قائما) وصل المصنف رواية أبي أسامة هذه في كتاب الأيمان والنذور كما سيأتي، وقد بينت في صفة الصلاة النكتة في اقتصار البخاري على هذه اللفظة من هذا الحديث. وحاصله أنه وقع هنا في الأخير " ثم ارفع حتى تطمئن جالسا " فأراد البخاري أن يبين أن راويها خولف فذكر رواية أبي أسامة مشيرا إلى ترجيحها. وأجاب الداودي عن أصل الإشكال بأن الجالس قد يسمى قائما لقوله تعالى وتعقبه ابن التين بأن التعليم إنما وقع لبيان ركعة واحدة والذي يليها هو القيام، يعني فيكون قوله حتى تستوي قائما هو المعتمد، وفيه نظر لأن الداودي عرف ذلك وجعل القيام محمولا على الجلوس واستدل بالآية، والإشكال إنما وقع في قوله في الرواية الأخرى " حتى تطمئن جالسا " وجلسة الاستراحة على تقدير أن تكون مرادة لا تشرع الطمأنينة فيها، فلذلك احتاج الداودي إلى تأويله، لكن الشاهد الذي أتى به عكس المراد، والمحتاج إليه هنا أن يأتي بشاهد يدل على أن القيام قد يسمى جلوسا، وفي الجملة المعتمد للترجيح كما أشار إليه البخاري وصرح به البيهقي، وجوز بعضهم أن يكون المراد به التشهد والله أعلم. قوله في الطريق الأخيرة (قال النبي صلى الله عليه وسلم ثم ارفع حتى تطمئن جالسا) هكذا اقتصر على هذا القدر من الحديث، وساقه في كتاب الصلاة بتمامه. *3* الشرح: قوله (باب إذا قال فلان يقرئك السلام) في رواية الكشميهني " يقرأ عليك السلام " وهو لفظ حديث الباب وقد تقدم شرحه في مناقب عائشة؛ وتقدم شرح هذه اللفظة وهي " اقرأ السلام " في كتاب الإيمان، قال النووي: في هذا الحديث مشروعية إرسال السلام، ويجب على الرسول تبليغه لأنه أمانة، وتعقب بأنه بالوديعة أشبه، والتحقيق أن الرسول إن التزمه أشبه الأمانة وإلا فوديعة والودائع إذا لم تقبل لم يلزمه شيء. قال: وفيه إذا أتاه شخص بسلام من شخص أو في ورقة وجب الرد على الفور، ويستحب أن يرد على المبلغ كما أخرج النسائي عن رجل من بني تميم أنه بلغ النبي صلى الله عليه وسلم سلام أبيه، فقال له " وعليك وعلى أبيك السلام " وقد تقدم في المناقب أن خديجة لما بلغها النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل سلام الله عليها قالت " إن الله هو السلام ومنه السلام، وعليك وعلى جبريل السلام " ولم أر في شيء من طرق حديث عائشة أنها ردت على النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أنه غير واجب، وقد ورد بلفظ الترجمة حديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه مسلم من حديث أنس " أن فتى من أسلم قال: يا رسول الله إني أريد الجهاد، فقال ائت فلانا فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام ويقول: ادفع إلي ما تجهزت به". *3* الشرح: قوله (باب التسليم في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين) أورد فيه حديث أسامة بن زيد في قصة عبد الله بن أبي. قال ابن التين: قوله " ابن سلول " هي قبيلة من هوازن وهو اسم أمه يعني عبد الله فعلى هذا لا ينصرف. قلت: ومراده أن اسم أم عبد الله بن أبي وافق اسم القبيلة المذكورة لا أنهما لمسمى واحد. وفيه " حتى مر في المجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين " وفيه " فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم " وقد تقدمت الإشارة إليه قريبا في " باب كنية المشرك " من كتاب الأدب. قال النووي: السنة إذا مر بمجلس فيه مسلم وكافر أن يسلم بلفظ التعميم ويقصد به المسلم. قال ابن العربي: ومثله إذا مر بمجلس يجمع أهل السنة والبدعة، وبمجلس فيه عدول وظلمة، وبمجلس فيه محب ومبغض. واستدل النووي على ذلك بحديث الباب، وهو مفرع على منع ابتداء الكافر بالسلام، وقد ورد النهي عنه صريحا فيما أخرجه مسلم والبخاري في " الأدب المفرد " من طريق سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رفعه " لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، واضطروهم إلى أضيق الطريق " وللبخاري في " الأدب المفرد " والنسائي من حديث أبي بصرة وهو بفتح الموحدة وسكون المهملة الغفاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إني راكب غدا إلى اليهود؛ فلا تبدءوهم بالسلام". وقالت طائفة يجوز ابتداؤهم بالسلام، فأخرج الطبري من طريق ابن عيينة قال: يجوز ابتداء الكافر بالسلام لقوله تعالى وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عون ابن عبد الله عن محمد بن كعب أنه سأل عمر بن عبد العزيز عن ابتداء أهل الذمة بالسلام فقال: نرد عليهم ولا نبدؤهم. قال عون فقلت له: فكيف تقول أنت؟ قال: ما أرى بأسا أن نبدأهم. قلت لم؟ قال لقوله تعالى هذا رأي أبي أمامة، وحديث أبي هريرة في النهي عن ابتدائهم أولى. وأجاب عياض عن الآية وكذا عن قول إبراهيم عليه السلام لأبيه بأن القصد بذلك المتاركة والمباعدة وليس القصد فيهما التحية. وقد صرح بعض السلف بأن قوله تعالى وقال الطبري: لا مخالفة بين حديث أسامة في سلام النبي صلى الله عليه وسلم على الكفار حيث كانوا مع المسلمين وبين حديث أبي هريرة في النهي عن السلام على الكفار، لأن حديث أبي هريرة عام وحديث أسامة خاص، فيختص من حديث أبي هريرة ما إذا كان الابتداء لغير سبب ولا حاجة من حق صحبة أو مجاورة أو مكافأة أو نحو ذلك، والمراد منع ابتدائهم بالسلام المشروع، فأما لو سلم عليهم بلفظ يقتضي خروجهم عنه كأن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فهو جائز كما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وغيره " سلام على من اتبع الهدى". وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال " السلام على أهل الكتاب إذا دخل عليهم بيوتهم " السلام على من اتبع الهدى " وأخرج ابن أبي شيبة عن محمد بن سيرين مثله. ومن طريق أبي مالك: إذا سلمت على المشركين فقل " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فيحسبون أنك سلمت عليهم وقد صرفت السلام عنهم " قال القرطبي في قوله " وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه " معناه لا تتنحوا لهم عن الطريق الضيق إكراما لهم واحتراما، وعلى هذا فتكون هذه الجملة مناسبة للجملة الأولى في المعنى، وليس المعنى إذا لقيتموهم في طريق واسع فألجئوهم إلى حرفه حتى يضيق عليهم لأن ذلك أذى لهم وقد نهينا عن أذاهم بغير سبب. *3* وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو لَا تُسَلِّمُوا عَلَى شَرَبَةِ الْخَمْرِ الشرح: قوله (باب من لم يسلم على من اقترف ذنبا، ومن لم يرد سلامه حتى تتبين توبته، وإلى متى تتبين توبة العاصي) ؟ أما الحكم الأول فأشار إلى الخلاف فيه، وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يسلم على الفاسق ولا المبتدع. قال النووي: فإن اضطر إلى السلام بأن خاف ترتب مفسدة في دين أو دنيا إن لم يسلم سلم، وكذا قال ابن العربي، وزاد: وينوي أن السلام اسم من أسماء الله تعالى، فكأنه قال الله رقيب عليكم. وقال المهلب: ترك السلام على أهل المعاصي سنة ماضية، وبه قال كثير من أهل العلم في أهل البدع، وخالف في ذلك جماعة كما تقدم في الباب قبله. وقال ابن وهب يجوز ابتداء السلام على كل أحد ولو كان كافرا، واحتج بقوله تعالى وألحق بعض الحنفية بأهل المعاصي من يتعاطى خوارم المروءة، ككثرة المزاح واللهو وفحش القول، والجلوس في الأسواق لرؤية من يمر من النساء ونحو ذلك، وحكى ابن رشد قال قال مالك: لا يسلم على أهل الأهواء. قال ابن دقيق العيد: ويكون ذلك على سبيل التأديب لهم والتبري منهم. وأما الحكم الثاني فاختلف فيه أيضا فقيل: يستبرأ حاله سنة وقيل ستة أشهر وقيل خمسين يوما كما في قصة كعب، وقيل ليس لذلك حد محدود بل المدار على وجود القرائن الدالة على صدق مدعاه في توبته، ولكن لا يكفي ذلك في ساعة ولا يوم، ويختلف ذلك باختلاف الجناية والجاني. وقد اعترض الداودي على من حده بخمسين ليلة أخذا من قصة كعب فقال: لم يحده النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين، وإنما أخر كلامهم إلى أن أذن الله فيه؛ يعني فتكون واقعة حال لا عموم فيها. وقال النووي: وأما المبتدع ومن اقترف ذنبا عظيما ولم يتب منه فلا يسلم عليهم ولا يرد عليهم السلام كما قال جماعة من أهل العلم، واحتج البخاري لذلك بقصة كعب بن مالك انتهى. والتقييد بمن لم يتب جيد لكن في الاستدلال لذلك بقصة كعب نظر، فإنه ندم على ما صدر منه وتاب، ولكن أخر الكلام معه حتى قبل الله توبته، وقضيته أن لا يكلم حتى تقبل توبته، ويمكن الجواب بأن الاطلاع على القبول في قصة كعب كان ممكنا، وأما بعده فيكفي ظهور علامة الندم والإقلاع وأمارة صدق ذلك. قوله (اقترف) أي اكتسب وهو تفسير الأكثر. وقال أبو عبيدة الاقتراف التهمة. قوله (وقال عبد الله بن عمرو: لا تسلموا على شربة الخمر) بفتح الشين المعجمة والراء بعدها موحدة جمع شارب، قال ابن التين: لم يجمعه اللغويون كذلك وإنما قالوا شارب وشرب مثل صاحب وصحب انتهى. وقد قالوا فسقة وكذبة في جمع فاسق وكاذب، وهذا الأثر وصله البخاري في " الأدب المفرد " من طريق حبان بن أبي جبلة بفتح الجيم والموحدة عن عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ " لا تسلموا على شراب الخمر " وبه إليه قال " لا تعودوا شراب الخمر إذا مرضوا " وأخرج الطبري عن علي موقوفا نحوه، وفي بعض النسخ من الصحيح " وقال عبد الله بن عمر " بضم العين وكذا ذكره الإسماعيلي. وأخرج سعيد بن منصور بسند ضعيف عن ابن عمر " لا تسلموا على من شرب الخمر ولا تعودوهم إذا مرضوا ولا تصلوا عليهم إذا ماتوا " وأخرجه ابن عدي بسند أضعف منه عن ابن عمر مرفوعا. الحديث: حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ تَبُوكَ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلَامِنَا وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَأَقُولُ فِي نَفْسِي هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ أَمْ لَا حَتَّى كَمَلَتْ خَمْسُونَ لَيْلَةً وَآذَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى الْفَجْرَ الشرح: قوله (حدثنا ابن بكير) هو يحيى بن عبد الله بن بكير، وذكر قطعا يسيرة من حديث كعب بن مالك في قصة توبته في غزوة تبوك، وقد ساقه في المغازي بطوله عن يحيى بن بكير بهذا الإسناد. وقوله "وآتى " هو بمد الهمزة فعل مضارع من الإتيان، وبين قوله " عن كلامنا " وبين هذه الجملة كلام كثير آخره " فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد " وفي الحديث أيضا قصته مع أبي قتادة وتسوره عليه الحائط وامتناع أبي قتادة من رد السلام عليه ومن جوابه له عما سأله عنه. واقتصر البخاري على القدر الذي ذكره لحاجته إليه هنا، وفيه ما ترجم به من ترك السلام تأديبا وترك الرد أيضا، وهو مما يخص به عموم الأمر بإفشاء السلام عند الجمهور، وعكس ذلك أبو أمامة فأخرج الطبري بسند جيد عنه أنه كان لا يمر بمسلم ولا نصراني ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه، فقيل له، فقال: إنا أمرنا بإفشاء السلام، وكأنه لم يطلع على دليل الخصوص. واستثنى ابن مسعود ما إذا احتاج لذلك المسلم لضرورة دينية أو دنيوية كقضاء حق المرافقة، فأخرج الطبري بسند صحيح عن علقمة قال " كنت ردفا لابن مسعود، فصحبنا دهقان، فلما انشعبت له الطريق أخذ فيها، فأتبعه عبد الله بصره فقال: السلام عليكم. فقلت: ألست تكره أن يبدؤوا بالسلام؟ قال: نعم ولكن حق الصحبة. وبه قال الطبري حمل عليه سلام النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مجلس فيه أخلاط من المسلمين والكفار، وقد تقدم الجواب عنه في الباب الذي قبله. *3* الشرح: قوله (باب كيف الرد على أهل الذمة بالسلام) ؟ في هذه الترجمة إشارة إلى أنه لا منع من رد السلام على أهل الذمة فلذلك ترجم بالكيفية، ويؤيده قوله تعالى وقال عطاء: الآية مخصوصة بالمسلمين فلا يرد السلام على الكافر مطلقا، فإن أراد منع الرد بالسلام وإلا فأحاديث الباب ترد عليه. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ دَخَلَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْلًا يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ الشرح: قوله (أن عائشة قالت) كذا قال صالح بن كيسان مثله كما تقدم في الأدب. وقال سفيان عن الزهري عن عروة " عن عائشة قالت " وسيأتي في استتابة المرتدين. قوله (دخل رهط من اليهود) لم أعرف أسماءهم، لكن أخرج الطبراني بسند ضعيف عن زيد بن أرقم قال " بينما أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من اليهود يقال له ثعلبة بن الحارث فقال: السام عليك يا محمد. فقال: وعليكم. فإن كان محفوظا احتمل أن يكون أحد الرهط المذكورين، وكان هو الذي باشر الكلام عنهم كما جرت العادة من نسبة القول إلى جماعة والمباشر له واحد منهم، لأن اجتماعهم ورضاهم به في قوة من شاركه في النطق. قوله (فقالوا السام عليك) كذا في الأصول بألف ساكنة، وسيأتي في الكلام على الحديث الثاني أنه جاء بالهمز، وقد تقدم تفسير السوم بالموت في كتاب الطب، وقيل هو الموت العاجل. قوله (ففهمتها فقلت: عليكم السام واللعنة) في رواية ابن أبي مليكة عن عائشة كما تقدم في أوائل الأدب " فقالت عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم " ولمسلم من طريق أخرى عنها " بل عليكم السام والذام " بالذال المعجمة وهو لغة في الذم ضد المدح يقال ذم بالتشديد وذام بالتخفيف وذيم بتحتانية ساكنة. وقال عياض: لم يختلف الرواة أن الذام في هذا الحديث بالمعجمة، ولو روى بالمهملة من الدوام لكان له وجه ولكن كان يحتاج لحذف الواو ليصير صفة للسام، وقد حكى ابن الأعرابي الدام لغة في الدائم، قال ابن بطال: فسر أبو عبيد السام بالموت وذكر الخطابي أن قتادة تأوله على خلاف ذلك، ففي رواية عبد الوارث بن سعيد عن سعيد بن أبي عروبة قال: كان قتادة يقول تفسير السام عليكم تسامون دينكم وهو - يعني السام - مصدر سئمه سآمة وسآما مثل رضعه رضاعة ورضاعا. قال ابن بطال: ووجدت هذا الذي فسره قتادة مرويا عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه بقي بن مخلد في تفسيره من طريق سعيد عن قتادة عن أنس " أن النبي صلى الله عليه وسلم بينا هو جالس مع أصحابه إذ أتى يهودي فسلم عليه فردوا عليه فقال: هل تدرون ما قال؟ سلم يا رسول الله، قال: قال سام عليكم أي تسامون دينكم. قلت: يحتمل أن يكون قوله أي تسامون دينكم تفسير قتادة كما بينته رواية عبد الوارث التي ذكرها الخطابي، وقد أخرج البزار وابن حبان في صحيحه من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس " مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فسلم عليهم فرد عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل تدرون ما قال؟ قالوا نعم سلم علينا. قال فإنه قال السام عليكم أي تسامون دينكم، ردوه علي، فردوه فقال كيف قلت قال السام عليكم. فقال إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا عليكم ما قلتم " لفظ البزار وفي رواية ابن حبان " أن يهوديا سلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أتدرون " والباقي نحوه ولم يذكر قوله " ردوه إلخ " وقال في آخره " فإذا سلم عليكم رجل من أهل الكتاب فقولوا وعليك". قوله (واللعنة) يحتمل أن تكون عائشة فهمت كلامهم بفطنتها فأنكرت عليهم وظنت أن النبي صلى الله عليه وسلم ظن أنهم تلفظوا بلفظ السلام فبالغت في الإنكار عليهم، ويحتمل أن يكون سبق لها سماع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديثي ابن عمر وأنس في الباب، وإنما أطلقت عليهم اللعنة إما لأنها كانت ترى جواز لعن الكافر المعين باعتبار الحالة الراهنة لا سيما إذا صدر منه ما يقتضي التأديب، وإما لأنها تقدم لها علم بأن المذكورين يموتون على الكفر فأطلقت اللعن ولم تقيده بالموت، والذي يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن لا يتعود لسانها بالفحش، أو أنكر عليها الإفراط في السب، وقد تقدم في أوائل الأدب في " باب الرفق " ما يتعلق بذلك، وسيأتي الكلام على جواز لعن المشرك المعين الحي في " باب الدعاء على المشركين " من كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى. قوله (مهلا يا عائشة) تقدم بشرحه في " باب الرفق " من كتاب الأدب. قوله (فقد قلت عليكم) وكذا في رواية معمر وشعيب عن الزهري عند مسلم بحذف الواو، وعنده في رواية سفيان، وعند النسائي من رواية أخرى عن الزهري بإثبات الواو. قال المهلب: في هذا الحديث جواز انخداع الكبير للمكايد ومعارضته من حيث لا يشعر إذا رجي رجوعه. قلت: في تقييده بذلك نظر، لأن اليهود حينئذ كانوا أهل عهد، فالذي يظهر أن ذلك كان لمصلحة التآلف. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ الْيَهُودُ فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ السَّامُ عَلَيْكَ فَقُلْ وَعَلَيْكَ الشرح: قوله (عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر) يأتي في استتابة المرتدين من وجه آخر بلفظ " حدثني عبد الله ابن دينار سمعت ابن عمر". قوله (إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السام عليك، فقل: وعليك) هكذا هو في جميع نسخ البخاري، وكذا أخرجه في " الأدب المفرد " عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك، والذي عند جميع رواة الموطأ بلفظ " فقل عليك " ليس فيه الواو، وأخرجه أبو نعيم في " المستخرج " من طريق يحيى بن بكير، ومن طريق عبد الله بن نافع كلاهما عن مالك بإثبات الواو، وفيه نظر فإنه في الموطأ عن يحيى بن بكير بغير واو، ومقتضى كلام ابن عبد البر أن رواية عبد الله بن نافع بغير واو لأنه قال: لم يدخل من رواة الموطأ عن مالك الواو. قلت: لكن وقع عند الدار قطني في " الموطآت " من طريق روح بن عبادة عن مالك بلفظ " فقل وعليكم " بالواو وبصيغة الجمع، قال الدار قطني: القول الأول أصح يعني عن مالك. قلت: أخرجه الإسماعيلي من طريق روح ومعن وقتيبة ثلاثتهم عن مالك بغير واو وبالإفراد كرواية الجماعة، وأخرجه البخاري في استتابة المرتدين من طريق يحيى القطان عن مالك والثوري جميعا عن عبد الله بن دينار بلفظ " قل عليك " بغير واو، لكن وقع في رواية السرخسي وحده " فقل عليكم " بصيغة الجمع بغير واو أيضا، وأخرجه مسلم والنسائي من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن الثوري وحده بلفظ " فقولوا وعليكم " بإثبات الواو بصيغة الجمع، وأخرجه مسلم والنسائي من طريق إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار بغير واو، وفي نسخة صحيحة من مسلم بإثبات الواو، وأخرجه النسائي من طريق ابن عيينة عن ابن دينار بلفظ " إذا سلم عليكم اليهودي والنصراني فإنما يقول السام عليكم فقل: عليكم " بغير واو وبصيغة الجمع. وأخرجه أبو داود من رواية عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار مثل ابن مهدي عن الثوري. وقال بعده وكذا رواه مالك والثوري عن عبد الله بن دينار قال فيه " وعليكم " قال المنذري في الحاشية: حديث مالك أخرجه البخاري وحديث الثوري أخرجه البخاري ومسلم وهذا يدل على أن رواية مالك عندهما بالواو، فأما أبو داود فلعله حمل رواية مالك على رواية الثوري أو اعتمد رواية روح بن عبادة عن مالك، وأما المنذري فتجوز في عزوه للبخاري لأنه عنده بصيغة الإفراد، ولحديث ابن عمر هذا سبب أذكره في الذي بعده. الحديث: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ الشرح: الحديث أورده من طريق عبيد الله بن أبي بكر بن أنس حدثنا أنس بن مالك يعني جده بلفظ " إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم " كذا رواه مختصرا، ورواه قتادة عن أنس أتم منه أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من طريق شعبة عنه بلفظ " إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا إن أهل الكتاب يسلمون علينا فكيف نرد عليهم؟ قال قولوا: وعليكم " وأخرجه البخاري في " الأدب المفرد " من طريق همام عن قتادة بلفظ " مر يهودي فقال السام عليكم، فرد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام فقال قال السام عليكم، فأخذ اليهودي فاعترف فقال: ردوا عليه " وأخرجه أبو عوانة في صحيحه من طريق شيبان نحو رواية همام وقال في آخره " ردوه. فردوه، فقال: أقلت: السام عليكم؟ قال: نعم، فقال عند ذلك: إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم " وتقدم في الكلام على حديث عائشة من وجه آخر عن قتادة بزيادة فيه، وسيأتي في استتابة المرتدين من طريق هشام بن زيد بن أنس " سمعت أنس بن مالك يقول: مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: السام عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليك. ثم قال: أتدرون ماذا يقول؟ قال: السام عليك. قالوا: يا رسول الله ألا نقتله، قال: إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم " وفي رواية الطيالسي أن القائل ألا نقتله عمر. والجمع بين هذه الروايات أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وأتمها سياقا رواية هشام بن زيد هذه، وكأن بعض الصحابة لما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن اليهود تقول ذلك سألوا حينئذ عن كيفية الرد عليهم كما رواه شعبة عن قتادة، ولم يقع هذا السؤال في رواية هشام بن زيد، ولم تختلف الرواة عن أنس في لفظ الجواب وهو " وعليكم " بالواو وبصيغة الجمع. قال أبو داود في السنن وكذا رواية عائشة وأبي عبد الرحمن الجهني وأبي بصرة. قال المنذري: أما حديث عائشة فمتفق عليه. قلت: هو أول أحاديث الباب قال: وأما حديث أبي عبد الرحمن فأخرجه ابن ماجه، وأما حديث أبي بصرة فأخرجه النسائي. قلت: ما حديث واحد اختلف فيه على يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير، فقال عبد الحميد بن جعفر: عن أبي بصرة، أخرجه النسائي والطحاوي. وقال ابن إسحاق: عن أبي عبد الرحمن، أخرجه أحمد وابن ماجه والطحاوي أيضا. وقد قال بعض أصحاب ابن إسحاق عنه مثل ما قال عبد الحميد أخرجه الطحاوي، والمحفوظ قول الجماعة، ولفظ النسائي " فإن سلموا عليكم فقولوا وعليكم " وقد اختلف العلماء في إثبات الواو وإسقاطها في الرد على أهل الكتاب لاختلافهم في أي الروايتين أرجح. فذكر ابن عبد البر عن ابن حبيب لا يقولها بالواو لأن فيها تشريكا، وبسط ذلك أن الواو في مثل هذا التركيب يقتضي تقرير الجملة الأولى وزيادة الثانية عليها كمن قال زيد كاتب فقلت وشاعر فإنه يقتضي ثبوت الوصفين لزيد، قال وخالفه جمهور المالكية. وقال بعض شيوخهم: يقول عليكم السلام بكسر السين يعني الحجارة، ووهاه ابن عبد البر بأنه لم يشرع لنا سب أهل الذمة. ويؤيد إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة لما سبتهم. وذكر ابن عبد البر عن ابن طاوس قال: يقول علاكم السلام، بالألف أي ارتفع. وتعقبه. وذهب جماعة من السلف إلى أنه يجوز أن يقال في الرد عليهم " عليكم السلام " كما يرد على المسلم، واحتج بعضهم بقوله تعالى وعن طائفة من العلماء: لا يرد عليهم السلام أصلا. وعن بعضهم التفرقة بين أهل الذمة وأهل الحرب. والراجح من هذه الأقوال كلها ما دل عليه الحديث ولكنه مختص بأهل الكتاب. وقد أخرج أحمد بسند جيد عن حميد بن زادويه وهو غير حميد الطويل في الأصح عن أنس " أمرنا أن لا نزيد على أهل الكتاب على: وعليكم " ونقل ابن بطال عن الخطابي نحو ما قال ابن حبيب فقال، رواية من روى عليكم بغير واو أحسن من الرواية بالواو لأن معناه رددت ما قلتموه عليكم، وبالواو يصير المعنى علي وعليكم لأن الواو حرف التشريك انتهى. وكأنه نقله من " معالم السنن للخطابي " فإنه قال فيه هكذا يرويه عامة المحدثين وعليكم بالواو، وكان ابن عيينة يرويه بحذف الواو وهو الصواب، وذلك أنه بحذفها يصير قولهم بعينه مردودا عليهم، وبالواو يقع الاشتراك والدخول فيما قالوه انتهى. وقد رجع الخطابي عن ذلك فقال في الإعلام من شرح البخاري لما تكلم على حديث عائشة المذكور في كتاب الأدب من طريق ابن أبي مليكة عنها نحو حديث الباب وزاد في آخره " أو لم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم، فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في " قال الخطابي ما ملخصه: إن الداعي إذا دعا بشيء ظلما فإن الله لا يستجيب له ولا يجد دعاؤه محلا في المدعو عليه انتهى. وله شاهد من حديث جابر قال " سلم ناس من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم. قال وعليكم. قالت عائشة وغضبت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: بلى قد رددت عليهم فنجاب عليهم ولا يجابون فينا " أخرجه مسلم والبخاري في " الأدب المفرد " من طريق ابن جريج أخبرني أنه سمع جابرا. وقد غفل عن هذه المراجعة من عائشة وجواب النبي صلى الله عليه وسلم لها من أنكر الرواية بالواو، وقد تجاسر بعض من أدركناه فقال في الكلام على حديث أنس في هذا الباب: الرواية الصحيحة عن مالك بغير واو، وكذا رواه ابن عيينة وهي أصوب من التي بالواو، لأنه بحذفها يرجع الكلام عليهم وبإثباتها يقع الاشتراك انتهى. وما أفهمه من تضعيف الرواية بالواو وتخطئتها من حيث المعنى مردود عليه بما تقدم. وقال النووي: الصواب أن حذف الواو وإثباتها ثابتان جائزان وبإثباتها أجود ولا مفسدة فيه وعليه أكثر الروايات، وفي معناها وجهان: أحدهما أنهم قالوا عليكم الموت فقال وعليكم أيضا أي نحن وأنتم فيه سواء كلنا نموت. والثاني أن الواو للاستئناف لا للعطف والتشريك والتقدير: وعليكم ما تستحقونه من الذم. وقال البيضاوي: في العطف شيء مقدر، والتقدير وأقول عليكم ما تريدون بنا أو ما تستحقون، وليس هو عطفا على " عليكم " في كلامهم. وقال القرطبي: قيل الواو للاستئناف وقيل زائدة، وأولى الأجوبة أنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا. وحكى ابن دقيق العيد عن ابن رشد تفصيلا يجمع الروايتين إثبات الواو وحذفها فقال: من تحقق أنه قال السام أو السلام بكسر السين فليرد عليه بحذف الواو ومن لم يتحقق منه فليرد بإثبات الواو. فيجتمع من مجموع كلام العلماء في ذلك ستة أقوال. وقال النووي تبعا لعياض: من فسر السام بالموت فلا يبعد ثبوت الواو ومن فسرها بالسآمة فإسقاطها هو الوجه. قلت: بل الرواية بإثبات الواو ثابتة وهي ترجح التفسير بالموت، وهو أولى من تغليط الثقة. واستدل بقوله " إذا سلم عليكم أهل الكتاب " بأنه لا " يشرع للمسلم ابتداء الكافر بالسلام حكاه الباجي عن عبد الوهاب، قال الباجي: لأنه بين حكم الرد ولم يذكر حكم الابتداء، كذا قال، ونقل ابن العربي عن مالك: لو ابتدأ شخصا بالسلام وهو يظنه مسلما فبان كافرا كان ابن عمر يسترد منه سلامه. وقال مالك: لا. قال ابن العربي: لأن الاسترداد حينئذ لا فائدة له لأنه لم يحصل له منه شيء لكونه قصد السلام على المسلم. وقال غيره له فائدة وهو إعلام الكافر بأنه ليس أهلا للابتداء بالسلام. قلت: ويتأكد إذا كان هناك من يخشى إنكاره لذلك أو اقتداؤه به إذا كان الذي سلم ممن يقتدي به. واستدل به على أن هذا الرد خاص بالكفار فلا يجزئ في الرد على المسلم، وقيل: إن أجاب بالواو أجزأ وإلا فلا. وقال ابن دقيق العيد التحقيق أنه كاف في حصول معنى السلام لا في امتثال الأمر في قوله قلت: لكن لما اشتهرت هذه الصيغة للرد على غير المسلم ينبغي ترك جواب المسلم بها وإن كانت مجزئة في أصل الرد، والله أعلم. *3* الشرح: قوله (باب من نظر في كتاب من يحذر على المسلمين ليستبين أمره) كأنه يشير إلى أن الأثر الوارد في النهي عن النظر في كتاب الغير يخص منه ما يتعين طريقا إلى دفع مفسده هي أكثر من مفسدة النظر، والأثر المذكور أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس بلفظ " من نظر في كتاب أخيه بغير إذنه فكأنما ينظر في النار " وسنده ضعيف. الحديث: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ بُهْلُولٍ حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ حَدَّثَنِي حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَأَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ وَكُلُّنَا فَارِسٌ فَقَالَ انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنْ الْمُشْرِكِينَ مَعَهَا صَحِيفَةٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهَا حَيْثُ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قُلْنَا أَيْنَ الْكِتَابُ الَّذِي مَعَكِ قَالَتْ مَا مَعِي كِتَابٌ فَأَنَخْنَا بِهَا فَابْتَغَيْنَا فِي رَحْلِهَا فَمَا وَجَدْنَا شَيْئًا قَالَ صَاحِبَايَ مَا نَرَى كِتَابًا قَالَ قُلْتُ لَقَدْ عَلِمْتُ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَأُجَرِّدَنَّكِ قَالَ فَلَمَّا رَأَتْ الْجِدَّ مِنِّي أَهْوَتْ بِيَدِهَا إِلَى حُجْزَتِهَا وَهِيَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ فَأَخْرَجَتْ الْكِتَابَ قَالَ فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا حَمَلَكَ يَا حَاطِبُ عَلَى مَا صَنَعْتَ قَالَ مَا بِي إِلَّا أَنْ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا غَيَّرْتُ وَلَا بَدَّلْتُ أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي وَلَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكَ هُنَاكَ إِلَّا وَلَهُ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ قَالَ صَدَقَ فَلَا تَقُولُوا لَهُ إِلَّا خَيْرًا قَالَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَدَعْنِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ قَالَ فَقَالَ يَا عُمَرُ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ الْجَنَّةُ قَالَ فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ الشرح: حديث علي في قصة حاطب بن أبي بلتعة وقد تقدم شرحه في تفسير سورة الممتحنة. ويوسف بن بهلول شيخه فيه بضم الموحدة وسكون الهاء شيخ كوفي أصله من الأنبار، ولم يرو عنه من الستة إلا البخاري، وما له في الصحيح إلا هذا الحديث، وقد أورده من طرق أخرى في المغازي والتفسير، منها في المغازي عن إسحاق بن إبراهيم عن عبد الله بن إدريس بالسند المذكور هنا، وبقية رجال الإسناد كلهم كوفيون أيضا. قال ابن التين: معنى بهلول الضحاك وسمى به ولا يفتح أوله لأنه ليس في الكلام فعلول بالفتح. وقال المهلب: في حديث على هتك ستر الذنب، وكشف المرأة العاصية، وما روي أنه لا يجوز النظر في كتاب أحد إلا بإذنه إنما هو في حق من لم يكن متهما على المسلمين، وأما من كان متهما فلا حرمة له. وفيه أنه يجوز النظر إلى عورة المرأة للضرورة التي لا يجد بدا من النظر إليها. وقال ابن التين: قول عمر دعني أضرب عنقه مع قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تقولوا له إلا خيرا يحمل على أنه لم يسمع ذلك أو كان قوله قبل قول النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. ويحتمل أن يكون عمر لشدته في أمر الله حمل النهي على ظاهره من منع القول السيئ له ولم ير ذلك مانعا من إقامة ما وجب عليه من العقوبة للذنب الذي ارتكبه، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه صادق في اعتذاره، وأن الله عفا عنه. *3* الشرح: قوله (باب كيف يكتب إلى أهل الكتاب) ذكر فيه طرفا من حديث أبي سفيان في قصة هرقل، وهو واضح فيما ترجم له. قال ابن بطال: فيه جواز كتابة بسم الله الرحمن الرحيم إلى أهل الكتاب، وتقديم اسم الكاتب على المكتوب إليه. قال: وفيه حجة لمن أجاز مكاتبة أهل الكتاب بالسلام عند الحاجة، قلت: في جواز السلام على الإطلاق نظر، والذي يدل عليه الحديث السلام المقيد مثل ما في الخبر: السلام على من اتبع الهدى، أو السلام على من تمسك بالحق أو نحو ذلك. وقد تقدم نقل الخلاف في ذلك في أوائل كتاب الاستئذان. *3* وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَجَرَ خَشَبَةً فَجَعَلَ الْمَالَ فِي جَوْفِهَا وَكَتَبَ إِلَيْهِ صَحِيفَةً مِنْ فُلَانٍ إِلَى فُلَانٍ الشرح: قوله (باب بمن يبدأ في الكتاب) أي بنفسه أو بالمكتوب إليه؟ ذكر فيه طرفا من حديث الرجل من بني إسرائيل الذي اقترض ألف دينار، وكأنه لما لم يجد فيه حديثا على شرطه مرفوعا اقتصر على هذا، وهو على قاعدته في الاحتجاج بشرع من قبلنا إذا وردت حكايته في شرعنا ولم ينكر، ولا سيما إذا سيق مساق المدح لفاعله، والحجة فيه كون الذي عليه الدين كتب في الصحيفة من فلان إلى فلان وكان يمكنه أن يحتج بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل المشار إليه قريبا لكن قد يكون تركه لأن بداءة الكبير بنفسه إلى الصغير والعظيم إلى الحقير هو الأصل، وإنما يقع التردد فيما هو بالعكس أو المساوي. وقد أورد في " الأدب المفرد " من طريق خارجة بن زيد بن ثابت عن كبراء آل زيد بن ثابت هذه الرسالة لعبد الله معاوية أمير المؤمنين لزيد بن ثابت سلام عليك " وأورد عن ابن عمر نحو ذلك، وعند أبي داود من طريق ابن سيرين عن أبي العلاء بن الحضرمي عن العلاء أنه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبدأ بنفسه. وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن أيوب " قرأت كتابا من العلاء بن الحضرمي إلى محمد رسول الله وعن نافع كان ابن عمر يأمر غلمانه إذا كتبوا إليه أن يبدءوا بأنفسهم. وعن نافع كان عمال عمر إذا كتبوا إليه بدءوا بأنفسهم. قال المهلب: السنة أن يبدأ الكاتب بنفسه. وعن معمر عن أيوب أنه كان ربما بدأ باسم الرجل قبله إذا كتب إليه. وسئل مالك عنه فقال: لا بأس به وقال. هو كما لو أوسع له في المجلس. فقيل له إن أهل العراق يقولون لا تبدأ بأحد قبلك ولو كان أباك أو أمك أو أكبر منك، فعاب ذلك عليهم. قلت: والمنقول عن ابن عمر كان في أغلب أحواله، وإلا فقد أخرج البخاري في " الأدب المفرد " بسند صحيح عن نافع كانت لابن عمر حاجة إلى معاوية فأراد أن يبدأ بنفسه فلم يزالوا به حتى كتب، بسم الله الرحمن الرحيم إلى معاوية. وفي رواية زيادة أما بعد، بعد البسملة وأخرج فيه أيضا من رواية عبد الله بن دينار أن عبد الله بن عمر كتب إلى عبد الملك يبايعه " بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الملك أمير المؤمنين من عبد الله بن عمر سلام عليك إلخ " وقد ذكر في كتاب الاعتصام طرفا منه، ويأتي التنبيه عليه هناك إن شاء الله تعالى. قوله (وقال الليث) تقدم في الكفالة بيان من وصله. قوله (أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل أخذ خشبة) كذا أورده مختصرا، وأورده في الكفالة وغيرها مطولا قوله (وقال عمر بن أبي سلمة) أي ابن عبد الرحمن بن عوف " وعمر هذا مدني قدم واسط، وهو صدوق فيه ضعف، وليس له عند البخاري سوى هذا الموضع المعلق، وقد وصله البخاري في " الأدب المفرد " قال " حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة حدثنا عمر " فذكر مثل اللفظ المعلق هنا. وقد رويناه في الجزء الثالث من " حديث أبي طاهر المخلص " مطولا فقال " حدثنا البغوي حدثنا أحمد بن منصور حدثنا موسى " وقد ذكرت فوائده عند شرحه من كتاب الكفالة. قوله (عن أبي هريرة) في رواية الكشميهني " سمع أبا هريرة " وكذا للنسفي والأصيلي وكريمة. قوله (نجر) كذا للأكثر بالجيم وللكشميهني بالقاف، قال ابن التين: قيل في قصة صاحب الخشبة إثبات كرامات الأولياء، وجمهور الأشعرية على إثباتها، وأنكرها الإمام أبو إسحاق الشيرازي من الشافعية والشيخان أبو محمد بن أبي زيد وأبو الحسن القابسي من المالكية. قلت: أما الشيرازي فلا يحفظ عنه ذلك. وإنما نقل ذلك عن أبي إسحاق الإسفرايني، وأما الآخران فإنما أنكرا ما وقع معجزة مستقلة لنبي من الأنبياء كإيجاد ولد عن غير والد والإسراء إلى السماوات السبع بالجسد في اليقظة، وقد صرح إمام الصوفية أبو القاسم القشيري في رسالته بذلك، وبسط هذا يليق بموضع آخر، وعسى أن يتيسر ذلك في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. *3* الشرح: قوله (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم قوموا إلى سيدكم) هذه الترجمة معقودة لحكم قيام القاعد للداخل، ولم يجزم فيها تحكم للاختلاف، بل اقتصر على لفظ الخبر كعادته. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ أَهْلَ قُرَيْظَةَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ فَجَاءَ فَقَالَ قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ أَوْ قَالَ خَيْرِكُمْ فَقَعَدَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَؤُلَاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ قَالَ فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ فَقَالَ لَقَدْ حَكَمْتَ بِمَا حَكَمَ بِهِ الْمَلِكُ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ أَفْهَمَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ مِنْ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ إِلَى حُكْمِكَ الشرح: قوله (عن سعد بن إبراهيم عن أبي أمامة بن سهل) تقدم بيان الاختلاف في ذلك في غزوة بني قريظة من كتاب المغازي مع شرح الحديث، ومما لم يذكر هناك أن الدار قطني حكى في " العلل " أن أبا معاوية رواه عن عياض بن عبد الرحمن عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن جده، والمحفوظ عن سعد عن أبي أمامة عن أبي سعيد. قوله (على حكم سعد) هو ابن معاذ كما وقع التصريح به فيما تقدم. قوله في آخره (قال أبو عبد الله) هو البخاري (أفهمني بعض أصحابي عن أبي الوليد) يعني شيخه في هذا الحديث بسنده هذا (من قول أبي سعيد إلى حكمك) يعني من أول الحديث إلى قوله فيه " على حكمك " وصاحب البخاري في هذا الحديث يحتمل أن يكون محمد بن سعد كاتب الواقدي فإنه أخرجه في الطبقات عن أبي الوليد بهذا السند، أو ابن الضريس فقد أخرجه البيهقي في " الشعب " من طريق محمد بن أيوب الرازي عن أبي الوليد، وشرحه الكرماني على وجه آخر فقال، قوله " إلى حكمك " أي قال البخاري سمعت أنا من أبي الوليد بلفظ " على حكمك " وبعض أصحابي نقلوا لي عنه بلفظ " إلى " بصيغة الانتهاء بدل حرف الاستعلاء. كذا قال، قال ابن بطال، في هذا الحديث أمر الإمام الأعظم بإكرام الكبير من المسلمين، ومشروعية إكرام أهل الفضل في مجلس الإمام الأعظم والقيام فيه لغيره من أصحابه، وإلزام الناس كافة بالقيام إلى الكبير منهم. وقد منع من ذلك قوم واحتجوا بحديث أبي أمامة قال " خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم متوكئا على عصا فقمنا له فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم بعضهم لبعض " وأجاب عنه الطبري بأنه حديث ضعيف مضطرب السند فيه من لا يعرف، واحتجوا أيضا بحديث عبد الله بن بريدة أن أباه دخل على معاوية فأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أحب أن يتمثل له الرجال قياما وجبت له النار " وأجاب عنه الطبري بأن هذا الخبر إنما فيه نهي من يقام له عن السرور بذلك، لا نهي من يقوم له إكراما له. وأجاب عنه ابن قتيبة بأن معناه من أراد أن يقوم الرجال على رأسه كما يقام بين يدي ملوك الأعاجم، وليس المراد به نهي الرجل عن القيام لأخيه إذا سلم عليه. واحتج ابن بطال للجواز بما أخرجه النسائي من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى فاطمة بنته قد أقبلت رحب بها ثم قام فقبلها ثم أخذ بيدها حتى يجلسها في مكانه. قلت: وحديث عائشة هذا أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وصححه ابن حبان والحاكم وأصله في الصحيح كما مضى في المناقب وفي الوفاة النبوية لكن ليس فيه ذكر القيام. وترجم له أبو داود " باب القيام " وأورد معه فيه حديث أبي سعيد، وكذا صنع البخاري في " الأدب المفرد " وزاد معهما حديث كعب بن مالك في قصة توبته وفيه " فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول " وقد أشار إليه في الباب الذي يليه، وحديث أبي أمامة المبدأ به أخرجه أبو داود وابن ماجه، وحديث ابن بريدة أخرجه الحاكم من رواية حسين المعلم عن عبد الله ابن بريدة عن معاوية فذكره وفيه " ما من رجل يكون على الناس فيقوم على رأسه الرجال يحب أن يكثر عنده الخصوم فيدخل الجنة " وله طريق أخرى عن معاوية أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والمصنف في " الأدب المفرد " من طريق أبي مجلز قال " خرج معاوية على ابن الزبير وابن عامر، فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير، فقال معاوية لابن عامر: اجلس فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار " هذا لفظ أبي داود؛ وأخرجه أحمد من رواية حماد بن سلمة عن حبيب بن الشهيد عن أبي مجلز وأحمد عن إسماعيل بن علية عن حبيب مثله وقال " العباد " بدل " الرجال " ومن رواية شعبة عن حبيب مثله وزاد فيه " ولم يقم ابن الزبير وكان أرزنهما، قال: فقال مه " فذكر الحديث وقال فيه " من أحب أن يتمثل له عباد الله قياما " وأخرجه أيضا عن مروان بن معاوية عن حبيب بلفظ " خرج معاوية فقاموا له " وباقيه كلفظ حماد. وأما الترمذي فإنه أخرجه من رواية سفيان الثوري عن حبيب، ولفظه " خرج معاوية فقام عبد الله بن الزبير وابن صفوان حين رأوه فقال اجلسا " فذكر مثل لفظ حماد، وسفيان وإن كان من رجال الحفظ إلا أن العدد الكثير وفيهم مثل شعبة أولى بأن تكون روايتهم محفوظة من الواحد، وقد اتفقوا على أن ابن الزبير لم يقم، وأما إبدال ابن عامر بابن صفوان فسهل لاحتمال الجمع بأن يكونا معا وقع لهما ذلك، ويؤيده الإتيان فيه بصيغة الجمع وفي رواية مروان بن معاوية المذكور، وقد أشار البخاري في " الأدب المفرد " إلى الجمع المنقول عن ابن قتيبة فترجم أولا " باب قيام الرجل لأخيه " وأورد الأحاديث الثلاثة التي أشرت إليها، ثم ترجم " باب قيام الرجل للرجل القاعد " و " باب من كره أن يقعد ويقوم له الناس " وأورد فيهما، حديث جابر " اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، فالتفت إلينا فرآنا قياما، فأشار إلينا فقعدنا، فلما سلم قال، إن كدتم لتفعلوا فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا " وهو حديث صحيح أخرجه مسلم، وترجم البخاري أيضا قيام الرجل للرجل تعظيما، وأورد فيه حديث معاوية من طريق أبي مجلز، ومحصل المنقول عن مالك إنكار القيام ما دام الذي يقام لأجله لم يجلس ولو كان في شغل نفسه، فإنه سئل عن المرأة تبالغ في إكرام زوجها فتتلقاه وتنزع ثيابه وتقف حتى يجلس فقال: أما التلقي فلا بأس به، وأما القيام حتى يجلس فلا فإن هذا فعل الجبابرة وقد أنكره عمر بن عبد العزيز. وقال الخطابي في حديث الباب " جواز إطلاق السيد " على الخير الفاضل، وفيه أن قيام المرءوس للرئيس الفاضل والإمام العادل والمتعلم للعالم مستحب، وإنما يكره لمن كان بغير هذه الصفات. ومعنى حديث " من أحب أن يقام له " أي بأن يلزمهم بالقيام له صفوفا على طريق الكبر والنخوة، ورجح المنذري ما تقدم من الجمع عن ابن قتيبة والبخاري وأن القيام المنهي عنه أن يقام عليه وهو جالس، وقد رد ابن القيم في " حاشية السنن " على هذا القول بأن سياق حديث معاوية يدل على خلاف ذلك، وإنما يدل على أنه كره القيام له لما خرج تعظيما، ولأن هذا لا يقال له القيام للرجل وإنما هو القيام على رأس الرجل أو عند الرجل، قال: والقيام ينقسم إلى ثلاث مراتب: قيام على رأس الرجل وهو فعل الجبابرة، وقيام إليه عند قدومه ولا بأس به، وقيام له عند رؤيته وهو المتنازع فيه. قلت: وورد في خصوص القيام على رأس الكبير الجالس ما أخرجه الطبراني في " الأوسط " عن أنس قال " إنما هلك من كان قبلكم بأنهم عظموا ملوكهم بأن قاموا وهم قعود " ثم حكى المنذري قول الطبري، وأنه قصر النهي على من سره القيام له لما في ذلك من محبة التعاظم ورؤية منزلة نفسه، وسيأتي ترجيح النووي لهذا القول، ثم نقل المنذري عن بعض من منع ذلك مطلقا أنه رد الحجة بقصة سعد بأنه صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بالقيام لسعد لينزلوه عن الحمار لكونه كان مريضا، قال: وفي ذلك نظر. قلت: كأنه لم يقف على مستند هذا القائل، وقد وقع في مسند عائشة عند أحمد من طريق علقمة بن وقاص عنها في قصة غزوة بني قريظة وقصة سعد بن معاذ ومجيئه مطولا وفيه " قال أبو سعيد فلما طلع قال النبي صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم، فأنزلوه " وسنده حسن، وهذه الزيادة تخدش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المتنازع فيه، وقد احتج به النووي في كتاب القيام ونقل عن البخاري ومسلم وأبي داود أنهم احتجوا به، ولفظ مسلم: لا أعلم في قيام الرجل للرجل حديثا أصح من هذا، وقد اعترض عليه الشيخ أبو عبد الله بن الحاج فقال ما ملخصه: لو كان القيام المأمور به لسعد هو المتنازع فيه لما خص به الأنصار، فإن الأصل في أفعال القرب التعميم، ولو كان القيام لسعد على سبيل البر والإكرام لكان هو صلى الله عليه وسلم أول من فعله وأمر به من حضر من أكابر الصحابة، فلما لم يأمر به ولا فعله ولا فعلوه دل ذلك على أن الأمر بالقيام لغير ما وقع فيه النزاع، وإنما هو لينزلوه عن دابته لما كان فيه من المرض كما جاء في بعض الروايات، ولأن عادة العرب أن القبيلة تخدم كبيرها فلذلك خص الأنصار بذلك دون المهاجرين مع أن المراد بعض الأنصار لا كلهم وهم الأوس منهم لأن سعد بن معاذ كان سيدهم دون الخزرج، وعلى تقدير تسليم أن القيام المأمور به حينئذ لم يكن للإعانة فليس هو المتنازع فيه، بل لأنه غائب قدم والقيام للغائب إذا قدم مشروع قال: ويحتمل أن يكون القيام المذكور إنما هو لتهنئته بما حصل له من تلك المنزلة الرفيعة من تحكيمه والرضا بما يحكم به، والقيام لأجل التهنئة مشروع أيضا. ثم نقل عن أبي الوليد بن رشد أن القيام يقع على أربعة أوجه: الأول محظور وهو أن يقع لمن يريد أن يقام إليه تكبرا وتعاظما على القائمين إليه، والثاني مكروه وهو أن يقع لمن لا يتكبر ولا يتعاظم على القائمين، لكن يخشى أن يدخل نفسه بسبب ذلك ما يحذر، ولما فيه من التشبه بالجبابرة. والثالث جائز، وهو أن يقع على سبيل البر والإكرام لمن لا يريد ذلك ويؤمن معه التشبه بالجبابرة. والرابع مندوب وهو أن يقوم لمن قدم من سفر فرحا بقدومه ليسلم عليه، أو إلى من تجددت له نعمة فيهنئه بحصولها أو مصيبة فيعزيه بسببها. وقال التوربشتي في " شرح المصابيح " معنى قوله " قوموا إلى سيدكم " أي إلى إعانته وإنزاله من دابته، ولو كان المراد التعظيم لقال: قوموا لسيدكم. وتعقبه الطيبي بأنه لا يلزم من كونه ليس للتعظيم أن لا يكون للإكرام، وما اعتل به من الفرق بين إلى واللام ضعيف لأن إلى في هذا المقام أفخم من اللام كأنه قيل قوموا وامشوا إليه تلقيا وإكراما، وهذا مأخوذ من ترتب الحكم على الوصف المناسب المشعر بالعلية، فإن قوله سيدكم علة للقيام له، وذلك لكونه شريفا علي القدر. وقال البيهقي: القيام على وجه البر والإكرام جائز كقيام الأنصار لسعد وطلحة لكعب، ولا ينبغي لمن يقام له أن يعتقد استحقاقه لذلك حتى إن ترك القيام له حنق عليه أو عاتبه أو شكاه قال أبو عبد الله وضابط ذلك أن كل أمر ندب الشرع المكلف بالمشي إليه فتأخر حتى قدم المأمور لأجله فالقيام إليه يكون عوضا عن المشي الذي فات، واحتج النووي أيضا بقيام طلحة لكعب بن مالك. وأجاب ابن الحاج بأن طلحة إنما قام لتهنئته ومصافحته ولذلك لم يحتج به البخاري للقيام، وإنما أورده في المصافحة، ولو كان قيامه محل النزاع لما انفرد به، فلم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قام له ولا أمر به ولا فعله أحد ممن حضر، وإنما انفرد طلحة لقوة المودة بينهما على ما جرت به العادة أن التهنئة والبشارة ونحو ذلك تكون على قدر المودة والخلطة، بخلاف السلام فإنه مشروع على من عرفت ومن لم تعرف. والتفاوت في المودة يقع بسبب التفاوت في الحقوق وهو أمر معهود. قلت: ويحتمل أن يكون من كان لكعب عنده من المودة مثل ما عند طلحة لم يطلع على وقوع الرضا عن كعب واطلع عليه طلحة، لأن ذلك عقب منع الناس من كلامه مطلقا، وفي قول كعب " لم يقم إلي من المهاجرين غيره " إشارة إلى أنه قام إليه غيره من الأنصار ثم قال ابن الحاج: وإذا حمل فعل طلحة على محل النزاع لزم أن يكون من حضر من المهاجرين قد ترك المندوب، ولا يظن بهم ذلك. واحتج النووي بحديث عائشة المتقدم في حق فاطمة. وأجاب عنه ابن الحاج باحتمال أن يكون القيام لها لأجل إجلاسها في مكانه إكراما لها لا على وجه القيام المنازع فيه، ولا سيما ما عرف من ضيق بيوتهم وقلة الفرش فيها، فكانت إرادة إجلاسه لها في موضعه مستلزمة لقيامه. وأمعن في بسط ذلك. واحتج النووي أيضا بما أخرجه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالسا يوما فأقبل أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه فجلس عليه ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من الجانب الآخر ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام فأجلسه بين يديه. واعترضه ابن الحاج بأن هذا القيام لو كان محل النزاع لكان الوالدان أولى به من الأخ، وإنما قام للأخ إما لأن يوسع له في الرداء أو في المجلس. واحتج النووي أيضا بما أخرجه مالك في قصة عكرمة بن أبي جهل أنه لما فر إلى اليمن يوم الفتح ورحلت امرأته إليه حتى أعادته إلى مكة مسلما فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم وثب إليه فرحا وما عليه رداء، وبقيام النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم جعفر من الحبشة فقال: ما أدري بأيهما أنا أسر بقدوم جعفر أو بفتح خيبر، وبحديث عائشة " قدم زيد بن حارثة المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم في بيتي فقرع الباب فقام إليه فأعتنقه وقبله " وأجاب ابن الحاج بأنها ليست من محل النزاع كما تقدم. واحتج أيضا بما أخرجه أبو داود عن أبي هريرة قال " كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدثنا فإذا قام قمنا قياما حتى نراه قد دخل. وأجاب ابن الحاج بأن قيامهم كان لضرورة الفراغ ليتوجهوا إلى أشغالهم، ولأن بيته كان بابه في المسجد والمسجد لم يكن واسعا إذ ذاك فلا يتأتى أن يستووا قياما إلا وهو قد دخل. كذا قال. والذي يظهر لي في الجواب أن يقال: لعل سبب تأخيرهم حتى يدخل لما يحتمل عندهم من أمر يحدث له حتى لا يحتاج إذا تفرقوا أن يتكلف استدعاءهم. ثم راجعت سنن أبي داود فوجدت في آخر الحديث ما يؤيد ما قلته، وهو قصة الأعرابي الذي جبذ رداءه صلى الله عليه وسلم فدعا رجلا فأمره أن يحمل له على بعيره تمرا وشعيرا، وفي آخره " ثم التفت إلينا فقال: انصرفوا رحمكم الله تعالى " ثم احتج النووي بعمومات تنزيل الناس منازلهم وإكرام ذي الشيبة وتوقير الكبير. واعترضه ابن الحاج بما حاصله أن القيام على سبيل الإكرام داخل في العمومات المذكورة، لكن محل النزاع قد ثبت النهي عنه فيخص من العمومات. واستدل النووي أيضا بقيام المغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف واعترضه ابن الحاج بأنه كان بسبب الذب عنه في تلك الحالة من أذى من يقرب منه من المشركين، فليس هو من محل النزاع. ثم ذكر النووي حديث معاوية وحديث أبي أمامة المتقدمين، وقدم قبل ذلك ما أخرجه الترمذي عن أنس قال " لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك " قال الترمذي حسن صحيح غريب، وترجم له " باب كراهية قيام الرجل للرجل " وترجم لحديث معاوية " باب كراهية القيام للناس " قال النووي: وحديث أنس أقرب ما يحتج به، والجواب عنه من وجهين: أحدهما أنه خاف عليهم الفتنة إذا أفرطوا في تعظيمه فكره قيامهم له لهذا المعنى كما قال " لا تطروني " ولم يكره قيام بعضهم لبعض، فإنه قد قام لبعضهم وقاموا لغيره بحضرته فلم ينكر عليهم بل أقره وأمر به. ثانيهما أنه كان بينه وبين أصحابه من الأنس وكمال الود والصفاء ما لا يحتمل زيادة بالإكرام بالقيام، فلم يكن في القيام مقصود، وإن فرض للإنسان صاحب بهذه الحالة لم يحتج إلى القيام. واعترض ابن الحاج بأنه لا يتم الجواب الأول إلا لو سلم أن الصحابة لم يكونوا يقومون لأحد أصلا، فإذا خصوه بالقيام له دخل في الإطراء، لكنه قرر أنهم يفعلون ذلك لغيره فكيف يسوغ لهم أن يفعلوا مع غيره ما لا يؤمن معه الإطراء ويتركوه في حقه؟ فإن كان فعلهم ذلك للإكرام فهو أولى بالإكرام لأن المنصوص على الأمر بتوقيره فوق غيره، فالظاهر أن قيامهم لغيره إنما كان لضرورة قدوم أو تهنئة أو نحو ذلك من الأسباب المتقدمة لا على صورة محل النزاع، وأن كراهته لذلك إنما هي في صورة محل النزاع أو للمعنى المذموم في حديث معاوية. قال: والجواب عن الثاني أنه لو عكس فقال: إن كان الصاحب لم تتأكد صحبته له ولا عرف قدره فهو معذور بترك القيام بخلاف من تأكدت صحبته له وعظمت منزلته منه وعرف مقداره لكان متجها فإنه يتأكد في حقه مزيد البر والإكرام والتوقير أكثر من غيره، قال: ويلزم على قوله أن من كان أحق به وأقرب منه منزلة كان أقل توقيرا له ممن بعد لأجل الأنس وكمال الود، والواقع في صحيح الأخبار خلاف ذلك كما وقع في قصة السهو وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه، وقد كلمه ذو اليدين مع بعد منزلته منه بالنسبة إلى أبي بكر وعمر، قال: ويلزم على هذا أن خواص العالم والكبير والرئيس لا يعظمونه ولا يوقرونه لا بالقيام ولا بغيره؛ بخلاف من بعد منه، وهذا خلاف ما عليه عمل السلف والخلف انتهى كلامه. وقال النووي في الجواب عن حديث معاوية: إن الأصح والأولى، بل الذي لا حاجة إلى ما سواه، أن معناه زجر المكلف أن يجب قيام الناس له. قال: وليس فيه تعرض للقيام بمنهي ولا غيره، وهذا متفق عليه. قال: والمنهي عنه محبة القيام، فلو لم يخطر بباله فقاموا له أو لم يقوموا فلا لوم عليه، فإن أحب ارتكب التحريم سواء قاموا أو لم يقوموا. قال: فلا يصح الاحتجاج به لترك القيام. فإن قيل: فالقيام سبب للوقوع في المنهي عنه، قلنا: هذا فاسد، لأنا قدمنا أن الوقوع في المنهي عنه يتعلق بالمحبة خاصة انتهى ملخصا. ولا يخفى ما فيه. واعترضه ابن الحاج بأن الصحابي الذي تلقى ذلك من صاحب الشرع قد فهم منه النهي عن القيام الموقع للذي يقام له في المحذور، فصوب فعل من امتنع من القيام دون من قام، وأقروه على ذلك، وكذا قال ابن القيم في حواشي السنن: في سياق حديث معاوية رد على من زعم أن النهي إنما هو في حق من يقوم الرجال بحضرته، لأن معاوية إنما روى الحديث حين خرج فقاموا له. ثم ذكر ابن الحاج من المفاسد التي تترتب على استعمال القيام أن الشخص صار لا يتمكن فيه من التفصيل بين من يستحب إكرامه وبره كأهل الدين والخير والعلم. أو يجوز كالمستورين، وبين من لا يجوز كالظالم المعلن بالظلم أو يكره كمن لا يتصف بالعدالة وله جاه، فلولا اعتياد القيام ما احتاج أحد أن يقوم لمن يحرم إكرامه أو يكره، بل جر ذلك إلى ارتكاب النهي لما صار يترتب على الترك من الشر. وفي الجملة متى صار ترك القيام يشعر بالاستهانة أو يترتب عليه مفسدة امتنع، وإلى ذلك أشار ابن عبد السلام. ونقل ابن كثير في تفسيره عن بعض المحققين التفصيل فيه فقال: المجذور أن يتخذ ديدنا كعادة الأعاجم كما دل عليه حديث أنس، وأما إن كان لقادم من سفر أو لحاكم في محل ولايته فلا بأس به. قلت: ويلتحق بذلك ما تقدم في أجوبة ابن الحاج كالتهنئة لمن حدثت له نعمة أو لإعانة العاجز أو لتوسيع المجلس أو غير ذلك والله أعلم. وقد قال الغزالي: القيام على سبيل الإعظام مكروه وعلى سبيل الإكرام لا يكره. وهذا تفصيل حسن. قال ابن التين: قوله في هذه الرواية " حكمت فيهم بحكم الملك " ضبطناه في رواية القابسي بفتح اللام أي جبريل فيما أخبر به عن الله. وفي رواية الأصيلي بكسر اللام أي بحكم الله أي صادفت حكم الله.
|